الاثنين، 8 يوليو 2019

ما فعلته القاهرة في صعيدية تحمل لسانا ذو «جيم وقاف»!

أسماء باسل

أسماء باسل
كنت مع صديقة داخل المترو منذ أعوام، وقفنا لنشتري تذكرتين، بادرت أنا بالاتجاه نحو شباك التذاكر لأنني أعرف مكانه من المرات السابقة عن هذه المرة، اشتريت ثم احتفظت بواحدة وأعطيت الأخرى لصديقتي، ثم أشرت لها بأننا سنتجه إلى هناك لنعبر الحاجز الحديدي بوضع التذاكر في المكان المخصص لها، ليُفتح الحاجز ثم نعبر.
أتذكر أن صديقتي أخبرتني أنها المرة الأولى لها في القاهرة وفي المترو أيضًا، لم تستوعب ما شرحته لها لأنني فعلت ذلك في عُجالة لنلحق بمواعيد استلام الأوراق الخاصة بعملنا، فشلت صديقتي في وضع التذاكر بشكل صحيح، لم تستطع العبور من الحاجز، اضطررتُ للعودة إليها خطوات لتتمكن من العبور.
أثناء ذلك كان حولنا بشرُ كثيرون تنبّهوا لنا، ثم حوّلوا المكان لساحة عرض ساخر مليء بعبارات تخترق النفس حنقًا وألمًا "دول صعايدة يا عم"، ليضحك كل من سمع العبارة، حتى نحن ضحكنا، ثم أدركنا أننا ضحكنا تحت تأثير الإحراج، لتطلق صديقتي سؤالًا في الهواء "مالهم الصعايدة يعني!".
لم يكن هذا هو الموقف الوحيد ولن تنتهي المواقف حتى بعد بث هذا الكلام أو غيره، هنا أو هناك، الآن أو بعد مائة عام، لأن ما فعلته بنا الثقافات المتوارثة عنّا هو عبث خطير لا يمكن إصلاحه بسهولة، ولأن الآخرين يعبثون ويظنون أن هذا شيئًا مُضحكًا مُسليًا، ومن ناحية أخرى يغرس فينا نحن هذا الضحك البذيء شروخ واغتراب لا تصلحها عبارات الطبطبة ومحاولات البعض بمدحنا أو إبداء الحب والإعجاب بحياتنا ولهجاتنا وملابسنا!
ولأن الناس في المدن الكبيرة التي يقولون عنها إنها بقاع متمدنة، يقولون إننا أُناس نتوافد عليهم من عوالم خفية، يحبون أن يرونا عبر شاشات التلفاز كمادة مسلية، لكن لا نشاركهم الحياة والمصايف والطرق والنوادي والمطاعم، يحاسبوننا على حرمان مناطقنا من الخدمات ويقولون عنّا "بتوع قرى يعني عايزهم يعملوا إيه!".
ماذا يعيب الإنسان إذا تنقَّل بين البلاد ولم يدرك أمورًا في مناطق لم ينشأ فيها؟ لا يعرفها ولا يفطنها ولا يعتادها من الأساس؟ كيف يحشر الناس بعضهم بعضًا في قوالب يجعلون منها مقاييس مُعممة في كل وقت؟ من الصعيد؟ إذًا سنضحك كثيرًا، من الجنوب؟ إذًا سنسمع كلمات لا نفهمها! سخرية جاهزة للاستدعاء في أي وقت!
"جيـم وقـاف"
لم تقتصر السخرية من التصرفات فقط بل امتدت إلى اللهجة، عند سماعهم لـ"الجيم" و"القاف" تحديدًا، بالرغم من أن اللهجات هي امتيازات وخصوصيات ثقافية، إلا أنها في القاهرة تتحول إلى لعنة تحرق حاملها بالسخرية والتنمر، حتى محاولات التخفيف من بعض الناس تأتي بنتائج سلبية، لأنها تشعرني في أغلب الوقت أنها محاولات لإصلاح ما أفسده الآخرين، أو أننا بشر نأتي من عوالم غريبة سنزيدهم دهشة إذا تحدثنا وقولنا عبارات ولهجات لا يعرفونها.. "الله.. اتكلمي تاني كدا؟ بحب لهجتكم أوي".
هذه ليست دعوة صعبانيات، ولست في موقف دفاع أو تعصّب للصعيد أعدد فيه خصاله وتاريخه وميراثه لأُدلل على أهميته وسط هذا التهكم الذي صنعه الإعلام والكتابات، وما ثبّتته انطباعات المدينة ف مخيلة أبناءها عن قاطني الأقاليم، لكنه تساؤل مشروع حول من يتحمّل مسؤولية وضعي في خانة المُكافِح من أجل الحصول على يوم دون أن أتعرض فيه لمحاولات تقليل الثقة بالنفس في أرجاء القاهرة لأنني ذات لهجة مميزة، أو أن أحصل على فرصة في الحديث والكلام مثلما يحصل عليها أقراني من قاطني القاهرة في نفس الحدث لأن لهجتهم مفهومة ومهضومة وليست بها حروف مُعطشة تُثير دهشة المستمع ليُوقفني في نصف الحديث ويسألني: أنتِ من الصعيد؟! هذا إذا تشجعت وحصلت على فرصة للحديث أصلًا.
لا أشعر بأفكاري وتعبيراتي وأنا في القاهرة لأنني أفتقدها، تُجبرني هذه المدينة على السكوت، أشعر فيها بالاغتراب والإقصاء اللفظ خارج إطار التعاملات، ينتابني الضيق أحيانًا إذا شعرت أن الآخرين ينتبهون فقط إلى حروف لهجتي ولا يركزون سمعهم فيما أقوله، أريد أن أعبر عما أقول بلهجتي وأن يسمعني الآخرين بشكل طبيعي دون أن يترقب أحدهم للحظة ما ليسألني في أي محافظة جنوبية أقطن!
تعرضت كثيرًا لمواقف شعرت فيها بعدم الاهتمام لأنني أتحدث لهجة هي عادية جدًا في الحقيقة، لكن الموروث السطحي المتوغل في المدينة الغائرة خُيّل لهم أنها لهجة ثقيلة تصلح فقط للمشاهدة في مسلسلات عن الصعيد، أو حينما يذهبون في رحلات الشتاء إلى الاقصر وأسوان، أو أن يظل صاحب هذه اللهجة تحت ضغط لا أعلم ما هي جدواه فعلًا!
أخبرني صديق ذات مرة أنه سوف يتحدث بلهجة أهل القاهرة لزوم الاندماج! لأنه لم يستطع التعايش هناك بلهجتنا الأم، تخيلت للحظة أنه مخطئ، لكن في الحقيقة ليس هو المخطئ، بل من أجبره أن يتخلى عن خصوصيته الثقافية ليستطيع المرور بيومه دون ضجر أو سخرية، أو حتى إعجاب مبالغ فيه.
في زيارتي الأخيرة للقاهرة قضيت يومين كاملين لم أتذكر فيهما متى كانت أطول مدة تحدثت فيها لدقائق متتالية، اعتدت على هذا منذ فترة؛ إلى أن أصبح شيئًا معتادًا، لا أتحدث أغلب الوقت ولا أسعى للاشتراك في أي حديث من فرط الشعور بالاغتراب، لكن في نهاية اليومين قبل سفري بساعات هاتفتني صديقة جنوبية وأخبرتني أنها بانتظاري في أحد المقاهي هي وصديقات أخريات لنا من الجنوب أيضًا.
ذهبت وكانت هذه هي المرة الأولى التي أتحدث فيها بأريحية منقطعة النظير منذ فترة طويلة، ضحك من الأعماق، جُمل من بلادنا اشتقت لها أثناء الحديث وأنا في القاهرة، كنا أربع فتيات من قنا وأسوان والمنيا، قالت لي واحدة منهن إنني لم أعد أتحدث في جلسات العمل مثلما كنت، لكن ما زالت منشوراتي تعجبها، سألتني عن السبب لأنني كنت أتحدث أكثر مما أكتب، لم يكن في ذهني وقتها الإجابة التي أعرفها، قُلت لها إنني لا أريد أن أتحدث ولم تعد لي رغبة في الكلام ولا النقاشات.
وأكملنا حديثنا بضحك حقيقي كنا نفتقده جميعًا في المدينة الخاوية، بعدها تذكرت أنني كنت في نقاش مع إحدى صديقاتي وقُلت لها قطعًا إن القاهرة تلفظني، أحب لهجتي لكنها لا تحبها، ولم أفلح في الاندماج بلهجتي وسط ألوان من البشر يتنمرون ضد كل من لا يمشي مع القطيع.
أتذكر أنني في بدايات مجيئي للقاهرة كنت شجاعة في مواجهة هذه المواقف أكثر من الآن، ربما لأنها كانت قليلة في البداية، كنت وقتها في مرحلة التعارف على مدينة كنت أظنها ودودة أكثر من ذلك، القاهرة مدينة مهمة، لكنها ليست مكان طيب، أنا الآن أشعر باغتراب وغربة في مكان أتلقى فيه تعليم وخبرات، ليس لأن العلم وفرص العمل قاصرة عليه فقط، بل لأننا في الجنوب محرومون في الأساس، لهذا نلجأ لمن يقسو علينا، نصمت حتى نعبر، إلى أن نعود إلى بلادنا.
كنت طالبة أحب الانخراط في الأنشطة الطلابية، سافرت لجامعات وشاركت في أنشطة مختلفة، لم أشعر في أي مرة أنني احتجت إلى تغيير لهجتي، لم تتقبلني القاهرة كما تقبلتني الأقاليم، الذين قطعًا يعانون من نفس الكأس في نفس المدينة ذات البطن الكبيرة.
كان أمامي خيارات اخترت أصعبها، إما أن اندمج وأُنحي لهجتي إلى حين عودتي، أو أن أحتفظ بها في مقابل أن أتحمل كل ما ألاقيه، أو أن أصمت، كنت ألاحظ نفسي أحيانًا أتحدث مثل لهجة المحيطين لكنني أكره ذلك على الإطلاق، أحب لهجتي وأحب أن أتحدث في دوائر تعتبر أن لهجتي جزءًا مني، لهذا انتابني الصمت، نجحت القاهرة في تحويلي لشخص صامت.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق